المقالات
قوة الصمت.. عندما يصبح الكتمان أسلوب حياة

بقلم/ مصطفى عبدالرحمن ال عتمان
لم يعد الصمت في هذا الزمن موقفًا عابرًا، بل أصبح ملاذًا للعقل، وملجأً للقلب، وحافة أمان لمن أدركوا أن كثرة الكلام لم تعد قوة، وأن البوح لم يعد دائمًا راحة. في عالم امتلأ بالضجيج والعيون والمقارنات، صار الكتمان نوعًا من الحكمة الراقية لا يفهمها إلا من ذاق تقلّبات البشر.
هناك أشياء تفقد قيمتها حين تُقال، وأحلام تذبل حين تُحكى، ومشاعر تضعف حين تُعرَض على من لا يقدّرها. لذلك تعلّم الحكماء أن يجعلوا لأنفسهم مساحة صامتة، لا يدخلها كل أحد، ولا تطّلع عليها كل العيون. فليس كل السائلين صادقين، وليس كل المبتسمين أوفياء.
الصمت ليس هروبًا، بل انتقاء. هو أن تختار الكلمة كما تختار المعركة، وألا تمنح مفاتيح روحك لكل من يطرق الباب. هو أن تفهم أن بعض القلوب لا تحتمل صدقك، وأن بعض الآذان لا تستحق أسرارك.
في عالمٍ صار فيه الفضول عادة، والتدخل حقًّا مكتسبًا، أصبح الاحتفاظ بالحياة الخاصة واجبًا لا أنانية. خططك تُحمى بالصمت، ونجاحاتك تُصان بالكتمان، ووجعك لا يُعرض إلا على من يملك دواءه، لا على من يتلذذ بفهمه.
الذين يتقنون الكتمان لا يعيشون في عزلة، بل يعيشون في توازن. يتحدثون حين يكون للكلام معنى، ويصمتون حين يكون الصمت كرامة. لا يشرحون أنفسهم كثيرًا، ولا يبررون مواقفهم بلا ضرورة. يدركون أن الاحترام لا يأتي من كثرة الحديث، بل من عمق الحضور.
الكتمان ليس قسوة، بل رحمة بالنفس. هو أن تحتفظ ببعض الأسرار لنفسك حتى لا تتشقق روحك بكثرة الشرح. هو أن تترك مساحة للغموض تحمي بها هيبتك من الابتذال، وقلبك من الاستهلاك.
وفي عمق الحكمة، يبقى الصمت رسالة: لستُ ملزمًا أن أشرح كل شيء، ولستُ مضطرًا أن أُقنع الجميع، ولستُ مسؤولًا عن إشباع فضول أحد. يكفيني أن أكون صادقًا مع نفسي، وأن أحمي قلبي من أن يُستباح.
فالصمت كما الكتمان، ليسا ضعفًا فيك، بل قوة ناضجة لا يمتلكها الجميع، ورفعة نفس لا يصل إليها إلا من تعلّم أن ليس كل ما يُعرف يُقال، وليس كل ما يُقال يُنقَذ.

